الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقَال شَيْخ الإسْلام: قوله: أحدهما: أن المعنى وجوه في الدنيا خاشعة، عاملة ناصبة، تصلى يوم القيامة نارًا حامية،ويعنى بها عُبَّاد الكفار كالرهبان،وعُبَّاد البدود [البُدود: جمع بُدّ، والبُدُّ: الصنم الذي يعبد]، وربما تُؤولت في أهل البدع كالخوارج. والقول الثاني: أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع، أى: تذل وتعمل وتنصب، قلت: هذا هو الحق لوجوه: أحدها: أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه، أى: وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية. وعلى الأول: لا يتعلق إلا / بقوله: {تصلى}. ويكون قوله:{خاشعة} صفة للوجوه قد فصل بين الصفة والموصوف بأجنبى متعلق بصفة أخرى متأخرة، والتقدير: وجوه خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارًا حامية. والتقديم والتأخير على خلاف الأصل، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه لا تغيير ترتيبه. ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أما مع اللبس فلا يجوز؛ لأنه يلتبس على المخاطب، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدل على التقديم والتأخير، بل القرينة تدل على خلاف ذلك، فإرادة التقديم والتأخير بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأَمْر المخاطَب بفهمه تكليف لما لا يطاق. الوجه الثاني: أن الله قد ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة، فقال بعد ذلك: الثالث: أن نظير هذا التقسيم قوله: الرابع: أن وصف الوجوه بالأعمال ليس في القرآن، وإنما في القرآن ذكر العلامة، كقوله: الخامس: أن قوله: / السادس: أن هذا الوصف مختص ببعض الكفار ولا موجب للتخصيص، فإن الذين لا يتعبدون من الكفار أكثر، وعقوبة فساقهم في دينهم أشد في الدنيا والآخرة، فإن من كف منهم عن المحرمات المتفق عليها وأدى الواجبات المتفق عليها لم تكن عقوبته كعقوبة الذين يدعون مع الله إلهًا آخر، ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويزنون. فإذا كان الكفر والعذاب على هذا التقدير في القسم المتروك أكثر وأكبر كان هذا التخصيص عكس الواجب. السابع: أن هذا الخطاب فيه تنفير عن العبادة والنسك ابتداء، ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة وليس في الخطاب تقييد كان هذا سعيًا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه.
قوله تعالى: / وفيه أيضًا في الصحيحين حديث ابن عباس أنه كان إذا قام من الليل يصلى ينظر إلى السماء، ويقرأ الآيات العشر من أواخر سورة آل عمران، فيجمع بين الذكر والنظر والفكر، فالنظر، أى: نظر القلب ونظر العين، والذكر ـ أيضًا ـ لابد مع ذكر اللسان من ذكر القلب. ولما كان النظر مبدأ، والذكر منتهى؛ لأن النظر يتقدم الإدراك، والعلم والذكر يتأخر عن الإدراك والعلم؛ ولهذا كان المتكلمة في النظر المقتضى للعلم، وكان المتصوفة في الذكر المقرر للعلم قدم آلة النظر على آلة الذكر،وختم بهداية الملك الجامع الذي هو الناظر الذاكر. وذكر ـ سبحانه ـ اللسان والشفتين؛ لأنهما العضوان الناطقان. فأما الهواء والحلق والنطع واللهوات والأسنان فمتصلة حركة بعضها مرتبطة بحركة البعض بمنزلة غيرها من أجزاء الحنك، فأما اللسان والشفتان فمنفصلة. ثم الشفتان لما كانا النهاية حملا الحروف الجوامع: الباء، والفاء، والميم، والواو. فأما الباء والفاء فهما الحرفان السببيان، فإن الباء أبدًا تفيد الإلصاق والسبب، وكذلك الفاء تفيد التعقيب والسبب؛ وبالأسباب تجتمع الأمور بعضها ببعض. / وأما الميم والواو فلهما الجمع والإحاطة، ألا ترى أن الميم ضمير لجمع المخاطبين في الأنواع الخمسة: ضميرى الرفع والنصب المتصلين والمنفصلين، وضمير الخفض في مثل قوله: [أنتم] و[علمتم] و[إياكم] و[علمكم] و[بكم] وضمير لجمع الغائبين في الأنواع الخمسة ـ أيضًا. والمضمر أيا كان، إما متكلم، أو مخاطَب، أو غائب، واحد أو اثنان أو جمع، مرفوع أو منصوب أو مجرور. فقد أحاطت بالجميع مطلقًا. أما الجمع المطلق فبنفسها، وأما الجمع المقدر باثنين فبزيادة علم التثنية، وهو الألف في مثل أنتما وعلمتما، وكذلك الباقى. ولهذا زيدت الواو في الجمع المطلق فقيل: عليهموا، وأنتموا، كما زيدت الألف في التثنية، ومن حذفها حذفها تخفيفًا؛ ولأن ترك العلامة علامة، فصارت الميم مشتركة، ثم الفارق الألف أو عدمها مع الواو. وأما الواو فلها جموع الضمائر الغائبة في مثل قالوا ونحوها، وأما المتصلة مثل إياكم وهم، فعلى اللغتين، فلما صارت الواو تمام المضمر المرفوع المنفصل، والياء تمام المؤنث، صارت للمؤنث ـ مطلقًا ـ في جميع أحواله؛ لأنه تلو المذكر، والمفرد مذكره ومؤنثه قبل المثنى والمجموع، فإن المفرد قبل المركب، ثم الألف صارت علم التثنية مطلقًا في المظهر والمضمر كما أن الواو علم لجمع المذكر، وجعل الياء علمى النصب والجر / في المظهر من المثنى والمجموع؛ لأن المظهر قبل المضمر وأقوى منه، فكانت أحق أن تكون فيه من الألف، فحين ما كان أقوى كانت الواو، وحين ما كان أوسط كان الياء. وأما الجموع الظاهرة، فالواو هى علم الجمع المذكر الصحيح، كما أن الألف علم التثنية؛ ولهذا ينطق بها حيث لا إعراب، لكن في حال النصب والخفض قلبتا يائين لأجل الفرق، وذلك لأن الأسماء الظاهرة لها الغيبة دون الخطاب في جميع العربية؛ وذلك لأن الواو أقوى حروف العلة، والضمة بعضها، وهى أقوى الحركات، لما فيها من الجمع، وكونها آخرًا، فجعلت للجمع والألف أخف حروف العلة، فجعلت للاثنين؛ لأن الياء كانت قد صارت للمؤنث في المفرد المرفوع الذي هو الأصل في قولك...[بياض بالأصل]، وجاءت الميم في مثل: اللهم إشعار بجميع الأسماء؛ وذلك لأن حرف الشفة لما كان جامعًا للقوة من مبدأ مخارج الحروف إلى منتهاها بمنزلة الخاتم الآخر، الذي حوى ما في المتقدم وزيادة كان جامعًا لقوى الحروف، فجعل جامعًا للأسماء مظهرها ومضمرها وجامعًا بين المفردات والجمل، فالواو والفاء عاطفان، والفاء رابطة جملة بجملة. ولما كانت النون قريبة من الفيهة فهى أنفية، جعلت لجمع المؤنث ؛ / لأنه دون جمع المذكر، وثنى العينين والشفتين؛ لأن العينين هما ربيئة القلب، وليس من الأعضاء أشد ارتباطًا بالقلب من العينين؛ ولهذا جمع بينهما في قوله:
/ سُورَة الشمْس قَال شَيْخ الإسْلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه: فَصْــل في قوله تعالى: / فالنهار يجلى الشمس،والليل يغشاها، وإن كان ظهور الشمس هو سبب النهار، ومغيبها سبب الليل. وقد ذكر ذلك بقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، فأضاف الضحى إليها. والضحى يعم النهار كله، كما قال: وقوله: فقد قيل: إن [ما] مصدرية، والتقدير: والسماء وبناء الله إياها، والأرض وطحو الله إياها، ونفسٍ وتسوية الله إياها. لابد من ذكر الفاعل في الجملة، لا يصلح أن يقدر المصدرـ هنا ـ مضافًا إلى الفعل فقط، فيقال: [وبنائها]؛ لأن الفاعل مذكور في الجملة في قوله: {وَمَا بَنَاهَا}،{وَمَا طَحَاهَا} فإن الفعل لابد له من فاعل في الجملة،ومفعول ـ أيضًا. فلابد أن يكون في التقدير الفاعل والمفعول.لكن إذا كانت مصدرية،كانت [ما] حرفًا ليس فيها ضمير، فيكون ضمير الفاعل في [بناها] عائدًا على غير مذكور، بل إلى معلوم، والتقدير: والسماء وما بناها الله، وهذا خلاف الأصل، وخلاف الظاهر. / والقول الثاني: أنها موصولة،والتقدير: الذي بناها، والذي طحاها، و[ما]، فيها عموم وإجمال، يصلح لما لا يعلم،ولصفات من يعلم كقوله تعالى: وهذا المعنى يجيء في قوله: وهذا المعنى كما أنه ظاهر الكلام وأصله هو أكمل في المعنى ـ أيضًا. فإن القَسَمَ بالفاعل، يتضمن الإقسام بفعله، بخلاف الإقسام بمجرد الفعل. وأيضًا، فالأقسام التي في القرآن ـ عامتها ـ بالذوات الفاعلة وغير الفاعلة. يقسم بنفس الفعل،كقوله: وهو - سبحانه - تارة يقسم بنفس المخلوقات، وتارة بربها وخالقها، كقوله: وفي هذه السورة أقسم بمخلوق وبفعله، وأقسم بمخلوق دون فعله، فأقسم بفاعله. / فإنه قال: وقال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، ولم يقل: [ونهارها] ولا [ضيائها] لأن [الضحى] يدل على النور والحرارة جميعًا، وبالأنوار والحرارة تقوم مصالح العباد. ثم أقسم بالسماء والأرض، وبالنفس، ولم يذكر معها فعلًا، فذكر فاعلها، فقال: {وَمَا بَنَاهَا}، {وَمَا طَحَاهَا}، فلم يصلح أن يقسم بفعل النفس، لأنها تفعل البر والفجور وهو ـ سبحانه ـ لا يقسم إلا بما هو معظم من مخلوقاته. لكن ذكر في ضمير القسم أنه خالق أفعالها بقوله: / وأما السماء والأرض، فليس لهما فعل ظاهر يعظم في النفوس حتى يقسم بها إلا ما يظهر من الشمس، والقمر، والليل، والنهار. والسماء والأرض أعظم من الشمس والقمر والليل والنهار، والنفس أشرف الحيوان المخلوق، فكان القسم بصانع هذه الأمور العظيمة مناسبًا، وكان إقسامه بصانعها تنبيهًا على أنه صانع ما فيها من الشمس والقمر والليل والنهار. فتضمن الكلام الإقسام بصانع هذه المخلوقات، وبأعيانها، وما فيها من الآثار والمنافع لبنى آدم. وختم القَسَم بالنفس، التي هى آخر المخلوقات، فإن الله خلق آدم يوم الجمعة آخر المخلوقات، وبين أنه خالق جميع أفعالها، ودل على أنه خالق جميع أفعال ما سواها. وهـو ـ سبحانـه ـ مع ما ذكر من عموم خلقه لجميع الموجودات على مراتبها حتى أفعال العبد المنقسمـة إلى التقـوى والفجـور وبين انقسـام الأفعـال إلى الخـير والشـر، وانقسام الفاعلين إلى مفلح وخائب، سعيد وشقى. وهذا يتضمن الأمر والنهي، والوعد والوعيد. فكان في ذلك رد على القدرية المجوسية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلقه وإلهامه، وعلى القدرية المشركية، الذين يبطلون أمره ونهيه، ووعده ووعيده احتجاجًا بقضائه وقدره. / وقد قيل في قوله: وأيضًا، فقوله: ولهذا لم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر إلا هذه الآية دون الثانية، كما في صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلى [هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلى الكنانى، واضع علم النحو، كان معدودًَا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان مـن التابعين، رسـم له على بن أبي طـالب شيئًا من أصول النحو فكتب فيه أبو الأسود، وأخذه عنه جماعة، سكن البصرة في خلافة عمر، وولى إمارتها في أيام على، وكان قد شهد صفين، مات بالبصرة عام 69هـ] قال: قال لى عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قُضِىَ عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم. قال: فقال: أفلا يكون ذلك ظلمًا؟ قال: ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لى: يرحمك الله: إنى لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك. فإن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر / قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: (لا، بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم)، وتصديق ذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ: والذي في الحديث هو القدر السابق من علم الله وكتابه وكلامه، وهذا إنما تنكره غالية القدرية. وأما الذي في القرآن فهو خلق الله أفعال العباد وهذا أبلغ. فإن القدرية المجوسية تنكره. فالذي في القرآن يدل على ما في الحديث وزيادة، ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا له. وذلك من وجوه: أحدها: أنه إذا علم أن الله هو الملهم للفجور والتقوى ـ ولم يكن في ذلك ظلم كما تقوله القدرية الإبليسية، ولا مخالفة للأمر والنهي والوعد والوعيد كما تقوله القدرية المشركية ـ فالإقرار بأن الله كتب ذلك وقدره قبل وجوده مما لا نزاع فيه عند الإنسان من جهة القدر. ولهذا قد أقر بالقدر السابق جمهور القدرية الذين ينكرون خلق الأفعال. ولم يثبت أحد من القدرية أن الله خالق أفعال العباد، وينكره من جهة القدر أن الله خالق ذلك. / الوجه الثاني: أنه إذا ثبت أن الله خالق فعل العبد، وأنه الملهم الفجور والتقوى، كان ذلك من جملة مصنوعاته، والشبهة التي عرضت للقدرية ـ التي سأل المزنيان للنبى صلى الله عليه وسلم ـ إنما هى في أعمال العباد التي عليها الثواب والعقاب خاصة، ولم ينكروا من جهة القدر أن الله قدر ما يخلقه هو قبل وجوده. وإنما أنكر من أنكر منهم إذا اشتبه أمر أفعال العباد. وهؤلاء يقولون:إن الله يقدر الأمور قبل وجودها إلا أفعال العباد والسعادة والشقاوة فإن ذلك لا ينبغى أن يعلمه حتى يكون؛لأن أمر الأمير بما يعلم أن المكلف لا يطيعه فيه،بل يكون ضررًا عليه، مستقبح عندهم. وقد حكى طوائف من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم الخلاف في ذلك عن المعتزلة. وقالوا: يجوز أن الله يأمر العبد بما يعلم أنه لا يفعله، خلافًا للمعتزلة؛ لأن في جنس المعتزلة من يخالف في ذلك وأكثرهم لا يخالف في ذلك؛ وإنما يخالف فيه طائفة منهم. فإذا كـان القرآن قـد أثبت أنه الملهم للنفس فجورها وتقـواها كان ذلك مـن جملة مفعولاته. فلا تبقى شبهة القدرية أنه قدر ذلك قبل وجوده، كما لا شبهة عندهم في تقديره لما يخلقه من الأعيان والصفات. وأما من أنكر تقديره العلم من منكرة الصفات أو بعضها فأولئك / لهم مأخذ آخر، ليس مأخذهم أمر الصفات. الوجه الثالث: أنه قد كان ألهم الفجور والتقوى، وهو خالق فعل العبد. فلابد أن يعلم ما خلقه قبل أن يخلقه، كما قال: وإذا كـان خلقه للشيء مستلزمًا لعلمه بـه، فذلك أصل القدر السابق وما علمه الله ـ سبحانه ـ بقوله وبكتبه فلا نزاع فيه. وهذا بَيِّن في جميع الأشياء في هذا وغيره. فإنه ـ سبحانه ـ إذا ألهم الفجور والتقوى فالملهم إن لم يميز بين الفجور والتقوى، ويعلم أن هذا الفعل الذي يريد أن يفعله هذا فجور، والذي يريد أن يفعله هذا تقوى، لم يصح منه إلهام الفجور والتقوى. فظهر بهذا حسن مـا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من تصديق الآية لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من القدر السابق. وقوله ـ سبحانه: وهذه طريقة القرآن ـ في غير موضع ـ يذكر المؤمن والكافر وأفعالهما الحسنة والسيئة، ووعده ووعيده، ويذكر أنه خالق الصنفين، كقوله: وهذا الأصل ضلت فيه الجبرية والقدرية: فإن القدرية المجوسية قالوا: إن الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح لصفات قائمة بها، والعبد هو المحدث لها بدون قدرة الله وبدون خلقه. فقالت الجبرية: بل العبد مجبور على فعله، والجبر حق يوجب وجود أفعاله عند وجود الأسباب التي يخلقها الله، وامتناع وجودها عند عدم شيء من الأسباب. وإذا كان مجبورًا يمتنع أن يكون الفعل حسنًا أو قبيحًا لمعنى يقوم به. / وهذه طريقة أبي عبد الله الرازي ونحوه من الجبرية النافين لانقسام الفعل في نفسه إلى حسن وقبيح. والأولى طريقة أبي الحسين البَصْرى ونحوه من القدرية القائلين بأن فعل العبد لم يحدثه إلا هو، والعلم بذلك ضرورى أو نظرى، وأن الفعل ينقسم في نفسه إلى حسن وقبيح، والعلم بذلك ضرورى. وأبو الحسين هو إمام المتأخرين من المعتزلة، وله من العقل والفضل ما ليس لأكثر نظرائه، لكن هو قليل المعرفة بالسنن، ومعانى القرآن، وطريقة السلف. وهو وأبو عبد الله الرازي في هذا الباب في طرفي نقيض، ومع كل منهما من الحق ما ليس مع الآخر. فأبو الحسين يدعى أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضرورى، والرازي يدعى أن العلم بأن افتقار الفعل المحْدَث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عند عدمه ضرورى كذلك، بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى. ثم يعتقد كل فريق أن هذا العلم الضرورى يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة، وليس الأمر كذلك. بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى ومصيب في ذلك، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد مُحْدِثًا لفعله، وكون / هذا الإحْدَاث ممكن الوجود ـ بمشيئة الله تعالى. ولهذا كان مذهب أهل السنة المحضة أن العبد فاعل لفعله حقيقة، كما ادعاه أبو الحسين من الضرورة، لا يقولون: ليس بفاعل حقيقة، أو ليس بفاعل، كما يقوله المائلون إلى الجبر مثل طائفة أبي عبد الله الرازي. يقولون مع ذلك: إن الله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله، وهو الذي جعله فاعلًا حقيقة، وهو خالق أفعال العباد، كما يقوله أهل الإثبات من الأشعرية ـ طائفة الرازي وغيرهم ـ لا كما يقوله القدرية ـ مثل أبي الحسين وطائفته ـ إن الله لم يخلق أفعال العباد. ولهذا نص الأئمة ـ كالإمام أحمد، ومن قبله من الأئمة كالأوزاعى وغيره ـ على إنكار إطلاق القول بالجبر نفيًا وإثباتًا، فلا يقال: [إن الله جبر العباد]، ولا يقال: [لم يجبرهم]. فإنَّ لفظ [الجبر] فيه اشتراك وإجمال. فإذا قيل: [جبرهم]، أشعر بأن الله يجبرهم على فعل الخير والشر بغير اختيارهم، وإذا قيل: [لم يجبرهم]، أشعر بأنهم يفعلون ما يشاؤون بغير اختياره، وكلاهما خطأ. وقد بسطنا القول في هذا في غيرهذا الموضع. والمقصود ـ هنا ـ أن هذين الفريقين اعتقدوا تنافي القدر والشرع، كما اعتقد ذلك المجوس والمشركون، فقالوا: إذا كان خالقًا للفعل امتنع / أن يكون الفعل في نفسه حسنًا له ثواب، أو قبيحًا عليه عقاب. ثم قالت القدرية: لكن الفعل منقسم، فليس خالقًا للفعل. وقالت الجبرية: لكنه خالق، فليس الفعل منقسمًا. ولكن الجبرية المقِرُّون بالرسل يُقِرُّون بالانقسام من جهة أمر الشارع ونهيه فقط، ويقولون: له أن يأمر بما شاء لا لمعنى فيه، وينهى عما يشاء لا لأَجْل معنى فيه، ويقولون في خلقه وفي أمره جميعًا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وأما من غلب عليه رأى أو هوى، فإنه ينحل عن ربقة الشارع إذا عاين الجبر، ويقولون ما يقوله المشركون: ومن أقر بالشرع، والأمر والنهي، والحسن والقبح، دون القدر وخلق الأفعال ـ كما عليه المعتزلة ـ فهو من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس. وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر. ومن أقر بالقضاء والقدر، وخلق الأفعال وعموم الربوبية، وأنكر المعروف والمنكر، والهدى والضلال، والحسنات والسيئات، ففيه شبه من المشركين والصابئة. / وكان الجهم بن صفوان ـ ومن اتبعه كذلك ـ لما ناظر أهل الهند، كما كان المعتزلة - كذلك ـ لما ناظروا المجوس ـ الفرس ـ والمجوس أرجح من المشركين. فإن من أنكر الأمر والنهي، أو لم يقر بذلك، فهو مشرك صريح كافرـ أكفر من اليهود والنصارى والمجوس- كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة ـ أهل الإباحة ونحوهم. ولهذا لم يظهر هؤلاء ونحوهم في عصر الصحابة والتابعين لقرب عهدهم بالنبوة، وإنما ظهر أولئك القدرية المجوسية؛ لأن مذهبهم فيه تعظيم للأمر والنهي والثواب والعقاب. فهم أقرب إلى الكتاب والسنة والرسول والدين من هؤلاء المعطلة للأمر والنهي فإن هؤلاء من شر الخلق. وأما القدرية الإبْلِيسية، فهم الذين يقرون بوجود الأمر والنهي من الله، ويقرون ـ مع ذلك ـ بوجود القضاء والقدر منه، لكن يقولون: هذا فيه جهل وظلم. فإنه بتناقضه يكون جهلا وسفهًا، وبما فيه من عقوبة العبد بما خلق فيه يكون ظلمًا. وهذا حال إبليس، فإنه قال: وإبليس هو أول من عادى الله، وطغى في خَلْقِه وأمره، وعارض النص بالقياس. ولهذا يقول بعض السلف: أول من قاس إبليس. فإن الله أمره بالسجود لآدم، فاعترض على هذا الأمر بأنى خير منه، وامتنع من السجود. فهو أول من عادى الله، وهو الجاهل الظالم؛ الجاهل بما في أمر الله من الحكمة، الظالم باستكباره الذي جمع فيه بين بطر الحق وغمط الناس. ثم قوله لربه: [فبما أغويتني لأفعلن]، جعل فعل الله ـ الذي هو إغواؤه له ـ حجة له، وداعيًا إلى أن يغوى ابن آدم. وهذا طَعْنٌ منه في فعل الله وأمره، وَزْعم منه أنه قبيح، فأنا أفعل القبيح ـ أيضًا. فقاس نفسه على ربه، ومَثَّلَ نفسه بربه. ولهذا كان مضاهيًا للربوبية، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ثم يبعث سراياه، فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة. فيجىء الرجل فيقول: مازلت به حتى فعل كذا. ثم يجيء الآخر فيقول: مازلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيلتزمه ويدنيه منه، ويقول: أنت أنت). / والقدرية قصدوا تنزيه الله عن السفه، وأحسنوا في هذا القصد. فإنه ـ سبحانه ـ مُقَدَّسٌ عما يقول الظالمون ـ من إبليس وجنوده ـ علوًا كبيرًا، حَكَمٌ، عَدْلٌ. لكن ضاق ذرعهم، وحصل عندهم نوع جهل اعتقدوا معه أن هذا التنزيه لا يتم إلا بأن يسلبوه قدرته على أفعال العباد، وخلقه لها، وشمول إرادته لكل شيء. فناظروا إبليس وحزبه في شيء، واستحوذ عليهم إبليس من ناحية أخرى. وهذا من أعظم آفات الجدال في الدين بغير علم أو بغير الحق وهو الكلام الذي ذمه السلف، فإن صاحبه يرد باطلًا بباطل وبدعة ببدعة. فجاء طوائف ممن ناظرهم من أهل الإثبات؛ ليقرروا أن الله خالق كل شيء، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير، فضاق ذرعهم وعلمهم، واعتقدوا أن هذا لا يتم إن لم ننكر محبة الله ورضاه، وما خص به بعض الأفعال دون بعض من الصفات الحسنة والسيئة وننكر حكمته ورحمته، فيجوز عليه كل فعل، لا ينزه عن ظلم ولا غيره من الأفعال. وزاد قوم في ذلك، حتى عطلوا الأمر والنهي، والوعد والوعيد ـ رأسًا ـ ومال هؤلاء إلى الإرجاء، كما مال الأولون إلى الوعيد. فقالت الوعيدية: / كل فاسق خالد في النار لا يخرج منها أبدًا، وقالت الخوارج: هو كافر. وغالية المرجئة أنكرت عقاب أحد من أهل القبلة. ومن صرح بالكفر أنكر الوعيد في الآخرة ـ رأسًا ـ كما يفعله طوائف من الاتحادية، والمتفلسفة، والقرامطة، والباطنية. وكان هؤلاء الجبرية المرجئة أكفر بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، من المعتزلة الوعيدية القدرية. وأما مقتصدة المرجئة الجبرية، الذين يقرون بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأن من أهل القبلة من يدخل النار، فهؤلاء أقرب الناس إلى أهل السنة. وقد روى الترمذى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لُعِنَتْ القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيًا أنا آخرهم). لكن المعتزلة من القدرية، أصلح من الجبرية والمرجئة ونحوهم في الشريعة ـ علمها وعملها. فكلامهم في أصول الفقه وفي اتباع الأمر والنهي، خير من كلام المرجئة من الأشعرية وغيرهم. فإن كلام هؤلاء في أصول الفقه قاصر جدًا، وكذلك هم مقصرون في تعظيم الطاعات والمعاصى. ولكن هم في أصول الدين أصلح من أولئك، فإنهم يؤمنون من صفات الله وقدرته وخلقه بما لا يؤمن به أولئك. وهذا الصنف أعلى. / فلهذا كانت المرجئة في الجملة خيرًا من القدرية، حتى إن الإرجاء دخل فيه الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، بخلاف الاعتزال. فإنه ليس فيه أحد من فقهاء السلف وأئمتهم.
فإذا كان الضلال في القدر حصل ـ تارة ـ بالتكذيب بالقدر والخلق، وتارة بالتكذيب بالشرع والوعيد، وتارة بتظليم الرب، كان في هذه السورة ردًا على هذه الطوائف كلها. فقوله تعالى: وقوله ـ بعد ذلك: / وأما المظلمون للخالق فإنه قد دل على عدله بقوله: وذكر ـ بعد ذلك ـ عقوبة من كذب رسله وطغى، وأنه لا يخاف عاقبة انتقامه ممن خالف رسله، ليبين أن من كذب بهذا أو بهذا،فإن الله ينتقم منه ولا يخاف عاقبة انتقامه، كما انتقم من إبليس وجنوده،وأن تظلمه من ربه وتسفيهه له إنما يهلك به نفسه ولن يضر الله شيئًا. (فإن العباد لن يبلغوا ضر الله فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل منهم، ما نقص ذلك من ملكه شيئًا). ولهذا لما سأل عمران بن حصين أبا الأسود الدؤلى عن ذلك ليَحْزُرَ عقله: (هل يكون ذلك ظلمًا؟)، فذكر أن ذلك ليس منه ظلمًا، وخاف من قوله: وقـد تبين أن القدرية الخائضين بالباطل، إما أن يكونوا مُكَذِّبين لما / أخبر به الرب من خلقه أو أمـره، وإمـا أن يكونوا مظلمين له في حكمه. وهو ـ سبحانه ـ الصادق العدل، كما قال تعالى: وقد ظهر ـ بذلك ـ أن المفترقين المختلفين من الأمة إنما ذلك بتركهم بعض الحق الذي بعث الله به نبيه وأخذهم باطلًا يخالفه، واشتراكهم في باطل يخالف ما جاء به الرسول. وهو من جنس مخالفة الكفار للمؤمنين كما قال تعالى: فـإذا اشتركوا في باطـل خالفـوا به المؤمنـين المتبعـين للرسـل نسوا حظًا مما ذكروا به فألقى بينهم العداوة والبغضاء، واختلفوا فيما بينهم في حق آخر جاء به الرسول، فآمن هـؤلاء ببعضه وكفـروا ببعضه، والآخـرون يؤمنـون بما كفـر بـه هـؤلاء ويكفرون بما يؤمن به هؤلاء. وهنا كلا الطائفتين المختلفتين المفترقتين مذمومة. وهذا شأن عامة / الافتراق والاختلاف في هذه الأمة وغيرها. وهذا من ذلك. فإنهم اشتركوا في أن كون الرب خالقًا لفعل العبد ينافي كون فعله منقسمًا إلى حسن وقبيح. وهذه المقدمة اشتركوا فيها ـ جدلا ـ من غير أن تكون حقًا في نفسها أو عليها حجة مستقيمة. وهى إحدى المقدمتين التي يعتمدها الرازي في مسألة التحسين والتقبيح. فإنه اعتقد في [محصوله] وغيره على أن العبد مجبور على فعله، والمجبور لا يكون فعله قبيحًا، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحًا. وهذه الحجة بنفي ذلك أصلها حجة المشركين المكذبين للرسل، الذين قالوا: لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام، إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه. ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين، وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين. لكن يوجد في المتكلمين والمتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى / يكفروا ـ حينئذ ـ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا، وإما حالا وعملا. وأكثر ما يقع ذلك في الأفعال التي توافق أهواءهم، يطلبون بذلك إسقاط اللوم والعقاب عنهم، ولا يزيدهم ذلك إلا ذمًا وعقابًا كالمستجير من الرمضاء بالنار. فإن هذا القول لا يطرد العمل به لأحد، إذ لا غنى لبنى آدم ـ بعضهم من بعض ـ من إرادة شيء والأمر به، وبغض شيء والنهي عنه. فمن طلب أن يسوى بين المحبوب والمكروه، والمرضى والمسخوط، والعدل والظلم، والعلم والجهل، والضلال والهدى، والرشد والغى، فإنه لا يستمر على ذلك أبدًا. بل إذا حصل له ما يكرهه ويؤذيه فر إلى دفع ذلك، وعقوبة فاعله بما قدر عليه حتى يعتدي في ذلك. فهم من أظلم الخلق في تفريقهم بين القبيح من الظلم والفواحش منهم ومن غيرهم، وممن يهوونه ومن لا يهوونه، واحتجاجهم بالقدر لأنفسهم دون خصومهم. وتجد أحدهم عند فعل ما يحمد عليه يغلب على قلبه حال أهل القدر، فيجعل نفسه هو المحدِث لذلك دون الله، وينسى نعمة الله عليه / في إلهامه إياه تقواه. وهذا من أظلم الخلق، كما قال أبو الفرج ابن الجوزى: أنت عند الطاعة قدرى، وعند المعصية جبرى، أى مذهب وافق هواك تمذهبت به. وأهل العدل ضد ذلك. إذا فعلوا حسنة شكروا الله عليها؛ لعلمهم بأن الله هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وأنه هو الذي كره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فاتبعوا أباهم حيث أذنب: ويقول أحدهم: (أبوء لك بنعمتك علىَّ وأبوء بذنبي)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن يقول: العبد اللهم، أنت ربي، لا إله إلا أنت. خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت. أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى. فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). وكان في الحديث الصحيح ـ أيضًا: (إن الله تعالى يقول: يا عبادى، إنما هى أعمالكم ترد / عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه). ويقولون بموجب قوله تعالى: قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ذكر ـ سبحانه ـ في هذه السورة ثمود دون غيرهم من الأمم المكذبة فقال شيخ الإسلام أبو العباس تقى الدين ابن تيمية: هذا ـ والله أعلم ـ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. فإنه لم يكن في الأمم المكذبة أخف ذنبًا وعذابًا منهم، إذ لم يذكر عنهم من الذنوب ما ذكر عن عاد، ومدين، وقوم لوط، وغيرهم. ولهذا لما ذكرهم وعادًا قال: وكذلك إذا ذكرهم مع الأمم المكذبة لم يذكر عنهم ما يذكر عن أولئك من التجبر والتكبر والأعمال السيئة، كاللواط، وبخس المكيال والميزان، والفساد في الأرض، كما في سورة هود، والشعراء وغيرهما. فكان في قوم لوط ـ مع الشرك ـ إتيان الفواحش التي / لم يسبقوا إليها؛ وفي عاد ـ مع الشرك ـ التجبر، والتكبر، والتوسع في الدنيا، وشدة البطش، وقولهم: وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم. فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم. فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين. وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان. وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة، فماتوا في الحال. فإذا كان هذا عذابه لهؤلاء وذنبهم ـ مع الشرك ـ عقر الناقة التي جعلها الله آية لهم، فمن انتهك محارم الله، واستخف بأوامره ونواهيه، وعقر عباده وسفك دماءهم، كان أشد عذابًا. ومن اعتبر أحوال العالم قديمًا وحديثًا، وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله، علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.
|